القى سماحه المرجع الدینی الشیخ محمد الیعقوبی (دام ظله) محاضره فی حشدٍ کبیر من مرشدی قوافل حجاج بیت الله الحرام بعد إنهائهم لمؤتمرهم السنوی وقبل توجّههم الى الدیار المقدسه، وقد تضمنت الکلمه برنامجاً من عده توصیات أخلاقیه وعملیه ینتفع منها حجاج بیت الله الحرام وهم فی مرحله التحضیر والاستعداد للحج والى ما بعد رجوعهم من رحله الحج المبارکه، وفیما یلی النص الکامل لکلمه سماحتُهُ (دام ظله) :
الحج والفرار الى الله تعالى
قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّی لَکُمْ مِنْهُ نَذِیرٌ مُبِینٌ} (الذاریات: ۵۰) وهو أمر بالفرار إلى الله تعالى وقد شرحنا ذلک فی قبس سابق ([۱]) ضمن عده نقاط ویمکن مراجعتها، مثلاً إن الآیه ذکرت الفرار إلى الله تعالى ولم تذکر ممن الفرار؟ وأجبنا إن الفرار منه سبحانه أیضاً ولیس فی ذلک أی تناقض فنحن نفرّ من عدله إلى کرمه وتفّضله، ومن غضبه الى رحمته، وقد تضمنت الأدعیه الشریفه هذه المعانی، کما فی مناجاه الراغبین للإمام السجاد (علیه السلام): (وَها أَنَا……. فَارٌّ مِنْ سَخَطِکَ إلى رِضاکَ، هارِبٌ مِنْکَ إلَیْکَ).
وقد دلّت الروایات الشریفه أن الحج هو من أعظم طرق الفرار إلى الله تبارک وتعالى، فقد روى الشیخ الکلینی فی الکافی والشیخ الصدوق فی معانی الأخبار بالإسناد عن الإمام الباقر (علیه السلام) فی تفسیر الفرار الى الله قال: (حجّوا الى الله عز وجل)، وروى الشیخ الصدوق فی الفقیه بسنده عن زید الشهید عن أبیه السجاد (علیه السلام) قال: (یعنی حجّوا إلى بیت الله، یا بنیَّ إن الکعبه بیت الله، فمن حجّ بیت الله فقد قصد إلى الله) ویضیف الإمام (علیه السلام) توسعه لذلک لمن لم یتیسر له الحج فقال (علیه السلام): (والمساجد بیوت الله فمن سعى إلیها فقد سعى الى الله وقصد إلیه)([۲]).
أن الحیاه فی ضیافه الرحمن وفی تلک الأراضی المقدسه من نعم الجنه التی عجلها الله تعالى لعباده المؤمنین فی الدنیا قبل الآخره لیریهم نعم الجنه وجداناً ویشوّقهم إلیها، وقد ورد هذا المعنى فی کلام أمیر المؤمنین (علیه السلام)
فمده السفر إلى الدیار المقدسه أیام خالصه لله تبارک وتعالى شرفها الله تعالى وأکرمها بارتباطها به تبارک وتعالى، وقد أکدّ دعاء العشره الأولى من ذی الحجه هذا المعنى (اللهُمَّ هذِهِ الأیامُ الَّتی فَضَّلتَها عَلى الأیامِ وَشَرَّفتَها وَقَد بَلَّغتَنیها بِمَنِّکَ وَرَحمَتِکَ) و المتوقع من الحاج الذی تجرد عن وطنه وأهله وأحبائه وماله ومنصبه وموقعه الاجتماعی أن یفرِّغ نفسه فیها لله تعالى، ویبدأ الاستعداد لهذه السفره الإلهیه قبلها بمده فیبحث عن القافله التی فیها مرشد دینی فاضل وورع وعامل، ومتعهد مخلص أمین، وأن یبرئ ذمته من حقوق الله تعالى و الناس المادیه والمعنویه، ویسترضی خصومه، و ان یتفقه فی مسائل الحج حتى یکون عارفاً بها من أولّها ولا یفوته شیء منها، فتجد من یحرِم من المطار ولا یلتفت الى أن التظلیل بسقف الطائره مخالفه شرعیه، وأن یصحب معه ما یعینه على طاعه الله مما سنذکر إن شاء الله تعالى، ومما یستحب قبل السفر توفیر الشعر من أول ذی القعده وهکذا.
والفرار إلى الله تعالى له مراتب یحصل الحاج فی بعض مراتبه العالیه على نور یسددِّه فی حیاته کلها، فکیف نحقق أفضل مراتب الفرار فی هذا الموسم العبادی؟
۱- الورع عن محارم الله کالغیبه والاختلاط غیر المشروع بین الرجال والنساء والممازحه باعتبار طول الرفقه فی السفر وتجنب مجالس البطالین والأحادیث الفارغه واللغو التی لا تخلو غالباً من المحرمات کالغیبه والغمز واللمز فالحجاج فی ضیافه الرحمن ولیسوا فی مقهى أو على أرصفه الطرقات، وأن تلتزم النساء بمقتضیات الحیاء والعفه ویتجنبنّ ما ینافیهما فإنهما رأس کل خیر، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِیهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی الْحَجِّ} (البقره: ۱۹۷).
۲- عدم إضاعه الوقت فیما لا نفع فیه کالتسکع فی الأسواق والتفرّج على أنواع البضائع فیها ویکفیه شراء ما یتحف أهله ومحبیه من هدایا تبرکاً من الدیار المقدسه، واستثمار الوقت بما ینفع حاله کذکر الله تعالى فقد ورد عن رسول الله (صلى الله علیه واله) فی فضل التسبیحه الرباعیه قوله: (من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجره فی الجنه ومن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجره فی الجنه ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجره فی الجنه، ومن قال: الله أکبر غرس الله له بها شجره فی الجنه فقال رجل من قریش: یا رسول الله إن شجرنا فی الجنه لکثیر، قال: نعم، ولکن إیاکم أن ترسلوا علیها نیراناً فتحرقوها، وذلک أن الله عز وجل یقول: ” یا أیها الذین آمنوا أطیعوا الله وأطیعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالکم. “([۳]).
۳- زیاره البیت الحرام یومیاً والصلاه والدعاء فیه والإکثار من الطواف حول الکعبه وهو أفضل من إکثار الصلاه للحجاج الآفاقیین، وإن مجرد النظر إلیها عباده وان ینوب فی هذه العبادات وغیرها عن المعصومین (علیهم السلام) ثم عن جمیع المؤمنین لیتضاعف أجره بعددهم.
۴- الالتفات الى الأسرار المعنویه ([۴]) لشعائر الحج ومعانیها الحقیقیه والأغراض المقصوده منها لتکتمل الاستفاده منها فان جوائز الحجاج على مراتب، أدناها لمن اقتصر على الشکلیات قال تعالى: {لَنْ یَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَکِنْ یَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْکُمْ} (الحج: ۳۷) وتوجد کتب مؤلفه فی هذا المجال.
۵- الالتزام بالصلاه فی أوقات فضیلتها فمن المعیب أن ینام الحاج عن صلاه الصبح أو یؤخر صلاته عن وقت الفضیله لانشغاله بأمور الدنیا.
۶- الحرص على حضور صلاه الجماعه التی یقیمها المرشدون، فإن فیها ثواباً لا یحصى وبرکات لا تعدّ.
۷- المواظبه على الاستماع الى المحاضرات الدینیه وحضور مجالس الوعظ والإرشاد وتعلیم الأحکام الشرعیه عموماً وما یتعلق بالحج خصوصاً.
۸- الإکثار من تلاوه القرآن الکریم فقد نزل على النبی (صلى الله علیه واله) فی هذه الأرض المبارکه، وأن یعیش أجواء الآیات الکریمه وظروف نزولها وورد استحباب إکمال ختمه قرآن فی مکه.
۹- أداء الصلوات المستحبه کالنوافل الیومیه خصوصاً صلاه اللیل فقد قال الله تعالى فی جزاء من یؤدیها {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِیَ لَهُمْ مِنْ قُرَّهِ أَعْیُنٍ} (السجده: ۱۷)، وصلاه جعفر الطیار فی المشاهد المشرفه خصوصاً فی ضحى یوم الجمعه، وصلاه رکعتین یوم الجمعه بین الظهر والعصر بالحمد والتوحید سبعاً مع دعائها القصیر، وصلاه أربع رکعات بالحمد والتوحید ثلاثاً والمعوذتین کل أحد من ذی القعده وبعدها الاستغفار والدعاء وصلاه رکعتین بالحمد وآیه {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} (الأعراف : ۱۴۲) فی العشر الأوائل من ذی الحجه، وصلاه أول الشهر حیث سیهلّ علیهم شهر الحجه وهم فی الدیار المقدسه وغیر ذلک مما جرت علیه سیره الصالحین.
۱۰- وما دام الحاج ینوی الإقامه فی مکه فإنه یستطیع الصوم من هذه الناحیه، فلا یفوته صوم الأیام المستحبه کیوم دحو الأرض وأول خمیس من الشهر وآخر خمیس والأربعاء فی الوسط وصوم الخمیس والجمعه والسبت من الأشهر الحرم ومنها ذو القعده وذو الحجه، کما یستحب صیام الأیام التسعه الأولى من شهر ذی الحجه.
۱۱- الإکثار من الأدعیه المنصوصه فی الأوقات المخصوصه وغیرها، أو ما یُنشئه الحاج نفسه مما یعبّر عن عمق صلته بالله تعالى وشده فقره واحتیاجه إلى فضله وإحسانه تبارک وتعالى.
۱۲- مطالعه کتب المناسک للتفقه فی أحکام الحج وأدائها بأحسن کیفیه والسؤال عن الأحکام التی لا یعرفها.
۱۳- أن یحسن معاشره الآخرین وصحبتهم ویکون لطیفاً وودوداً ساعیاً فی خدمتهم قدر الإمکان ویؤثرهم على نفسه إن حصل تزاحم فی أمر ما کالطعام أو المکان ولا یؤذیهم، وقد عقد صاحب الوسائل کتاباً مفصلاً لروایات أهل البیت (علیهم السلام) فی آداب العشره قبل الدخول فی مسائل کتاب الحج.
۱۴- وتوجد مستحبات خاصه بمناسک الحج کاستحباب الإحرام من المسجد الحرام للخروج الى الحج وإن کان الإحرام من المنزل مجزیاً وغیر ذلک مما ذکرته کتب المناسک، وقد یصعب أداء بعضها بسبب تنظیم حرکه القوافل وحفظ الحجاج من الضیاع کالمبیت لیله عرفه فی منى وکذا اللیله الثالثه عشره لمن لم تجب علیه فلا بد من الاتفاق بین المتعهد والمرشد الدینی.
۱۵- إظهار وحده الشعب واستثمار هذه الفرصه حیث یجتمع الحجاج من کافه الطوائف والقومیات والمناطق وتذویب جمیع الخلافات والتذکیر بالقواسم المشترکه التی أرادها الله تعالى ورسوله (صلى الله علیه واله) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ۱۰۳).
۱۶- الاهتمام بقضایا المسلمین جمیعا فی شرق الأرض وغربها والتعاطف معهم والمساعده فی حل مشاکلهم ولو بکلمه مواساه او نصیحه أو بنقل مشاکلهم الى المعنیین، وتبادل الرؤى النافعه مع جمیع المسلمین قال الله تعالى:{لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِی أَیَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (الحج: ۲۸).
[۱] – تفسیر (من نور القرآن):۵/۱۴-۲۱.
[۲] – راجع مصادر هذه الروایات فی تفسیر البرهان:۹/۱۳۴.
[۳] – بحار الأنوار ٩٠، ص١۶٨.
[۴] – أتذکر اننی فی حج سنه ۱۴۳۱ کنت ألقی کلمه أخلاقیه عن الآداب المعنویه للحج فی إحدى القوافل تأثروا بها ومما ذکرت من أسرار الحج هو ابتداء الحج بعد الاحرام بالخروج الى عرفه وهی خارج الحرم وفیه رساله أنکم لا تستحقون بأعمالکم إلا الخروج من حرم الله تعالى الآمن المبارک لکنهم بعد أن یصدقوا فی الاستغفار والدعاء فی عرفه وإکثار الذکر فی مزدلفه یؤذن لهم بدخول الحرم فی منى فیرجمون شیاطین الجن والإنس وینحرون الأهواء والمطامع وشهوات النفس الأماره بالسوء ویحلقون رؤوسهم اعلاناً للنصره التامه لدین الله تعالى ثم یعودون الى البیت الحرام راضیین مرضیین.
