کلما اقتربنا من العملیه الانتخابیه یکثر السؤال حول لزوم المشارکه فی الانتخابات، وهل یجب علینا ذلک ام لا، وإذا أردنا قراءه ما بین السطور لهذا السؤال فإنّه یعبّر عن الشعور بالإحباط لدى المواطن والامتعاض من أداء الکتل السیاسیه الحاکمه وفشلها فی تحقیق تطلّعات المواطنین وتقدیم الخدمات لهم وتوفیر الأمن والرفاه والکرامه والازدهار ولو بالحد الأدنى منها، وإلاّ لو کان الأداء مقنعاً ومقبولاً لاندفع المواطن إلى الإدلاء بصوته لیدیم هذه الحاله الإیجابیه، ولا مبرّر حینئذٍ لهذا السؤال .
۱- الإنسانیه: فإنّ أثمن ما وهب الله تعالى للإنسان هو حقّ الحریه بکل مواردها، حریه الاعتقاد، حریه السلوک، حریه التعبیر عن الرأی، حریه الاختیار، ومنها حریه اختیار من نفوضه فی إداره شؤوننا وولایه أمورنا وحفظ النظام الاجتماعی العام ونحو ذلک، وهذا الحق ثبّته الله تعالى فی القرآن الکریم (وَهَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ) (البلد/۱۰) (لِّیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَن بَیِّنَهٍ وَیَحْیَى مَنْ حَیَّ عَن بَیِّنَهٍ) (الأنفال/۴۲) (لاَ إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ) (البقره/۲۵۶) وفی الأحادیث الشریفه التی مضمونها (ما لکم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
۲- المواطنه: فإنّ کلّ مواطنٍ یحمل جنسیه البلد یبلغ السن القانونی یکون من حقّه المشارکه فی الانتخابات، ففی هذه المشارکه إثبات للمواطنه وإعلان للانتماء والهویه الوطنیه، لذلک تجد الفرحه والزهو فی وجوه العراقیین المغتربین أکثر عند الإدلاء بأصواتهم لأنّ هذه الفعّالیه تمثّل لهم فرصه للإحساس بمواطنتهم وهویتهم وعراقیتهم، وکذلک یوجد نفس الإحساس لدى الذین یدلون بأصواتهم لأوّل مره لبلوغهم السن القانونی لأنهم یشعرون باکتمال شخصیتهم وهویتهم.
فالمشارکه فی الانتخابات استحقاق إنسانی ووطنی، ونحن نعلم أنّ استیفاء الحقّ والأخذ به شیء یستحسنه العقلاء ویستقبحون إهماله وتضییعه والتفریط به کما لو کان من حقّ المواطن تملّک دار سکنیّه أو منحه مالیه أو امتیازات أخرى فلم یسعَ لتحصیلها فإنّه یستقبح فعله ویستهجن لدى العقلاء، کیف والحق عظیم وهو حریه اختیار من یدیر شؤون البلاد ویلی أمور العباد وتجری على یدیه مصالح الناس وأمنهم وأرزاقهم وحقوقهم العامه، وتحصیل هذا الحقّ من أهم ما تسعى إلیه الشعوب وتقوم بالثورات العارمه وتقدّم آلاف وملایین الضحایا على مدى التأریخ من أجل انتزاع هذا الحق الذی یسلبه الطواغیت والفراعنه والمستبدون ویعطون لأنفسهم تفویضا إلهیاً للتفرد بالسلطه والحکم، فالعقلاء لا یرضون بتفویت هذا الحق وإهماله وقد اُتیحت الفرصه لممارسته بلا مؤونه .
وأما کون المشارکه واجباً فلعده وجوه:
۱- الحدیث النبوی الشریف المشهور لدى الفریقین (من رأى منکم منکراً فلیغیره بیده فإن لم یستطع فبلسانه فإن لم یستطع فبقلبه لیس وراء ذلک شیء من الإیمان)([۱])، وقد شخّص کلّ مواطن عراقی المفاسد والمظالم والتقصیرات التی تُرتکب فی العملیه السیاسیه والتی یدفع ثمنها المواطن العراقی من أمنه وصحّته ورزقه ومستقبله، فلابد من قیام الکل بواجبهم فی التغییر والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، لأنّ التغییر بالید مستطاع الیوم من خلال الإدلاء بالصوت ولا نحتاج إلى التغییر بالقوه والعنف کما کان رأی بعض العلماء الاعلام من قبل.
۲- قوله تعالى (وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّهً وَسَطاً لِّتَکُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (البقره/۱۴۳) فمن خصائص هذه الأمه وتکالیفها أن تکون أمه شاهده فتشیر إلى هذا الفعل بأنّه حسن یجب القیام به، وإلى ذاک الفعل بأنّه قبیح یجب اجتنابه، وتشهد على هذا الشخص بأنّه صالح مؤهل لوضعه فی الموقع المناسب، وذاک الشخص سیء لا یجوز له التصدی لشیء من أمور الأمه.
وأداء هذه الشهاده واجب على الأمه و {وَلَا تَکْتُمُوا الشَّهَادَهَ وَمَنْ یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ} [البقره : ۲۸۳] وهی لیست کأی شهاده واجبه أخرى فی قضایا الناس ودعاواهم، لأنّها تتعلق بحقوق الأمه، قال أمیر المؤمنین (أفظع الخیانه خیانه الأمه)([۲])، فإذا تقاعست الأمه ولم تدلی بشهادتها للمؤهلین لقیاده البلاد فإنها تفسح المجال للمفسدین أن یعودوا إلى مواقعهم، والخیانه الأفظع والأسوأ أن یجدد إعطاء صوته ویمنح الثقه لنفس الذی ظلموه وغصبوه حقوقه وسرقوا ثرواته، ولم یرَ منهم خیراً إلاّ الصراعات وکان المواطن یقول سأقطع إصبعی الملوّن بالبنفسجی لما یرى من مفاسدهم ومظالمهم ولا مبالاتهم ثم یعود فینتخبهم فهذه شهاده زور على خلاف الواقع ویحاسب صاحبها ولعله یکون مشمولاً بعقوبه شاهد الزور والعیاذ بالله تعالى.
۳- ما ذهب إلیه مشهور علماء الإمامیه من وجوب نصره الأمه للفقیه الجامع للشرائط القائل بالولایه حتى یمکّن له فی الأرض ویفعّل ولایته ویقیم شرع الله تعالى بمقدار ما یتیسّر له أی لتحقیق الآیه الشریفه (الَّذِینَ إِن مَّکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاهَ وَآتَوُا الزَّکَاهَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنکَرِ) (الحج/۴۱) ونصرته تکون بنصره أتباعه الذین یعملون بتوجیهاته وینفذون مشاریعه على ارض الواقع، ولهذا المطلب تفصیل تعرضنا له مفصلاً فی بحث الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إن شاء الله تعالى.
۴- السیره العقلائیه البالغه حد الضروره الاجتماعیه بحسب تعبیر أمیر المؤمنین (A) بقوله: (لابد للناس من أمیر برٍ أو فاجر یعمل فی أمرته المؤمن ویستمتع فیها الکافر، ویبلغ الله فیها الآجال، ویجمع به الفیء ویقاتل به العدو وتؤمن به السبل ویؤخذ به للضعیف من القوی حتى یستریح بر ویستراح من فاجر).([۳])
فاختیار السلطه التی تتولى إداره الحکم فی البلاد ضروره عقلائیه ولابد من المشارکه فیها لضمان وصول الصالحین النزیهین الکفوئین الذین یستحقون منح الثقه بهم فی هذا المجال وتبرأ الذمه بانتخابهم.
ولکن لا یکفی التحری والبحث عن المرشح الذی تتوفر فیه الشروط المذکوره، بل لابد من توفرها فی القائمه أیضاً المتمثله برئیس الکیان أو الکتله وبرنامجها وسلوکها فی العملیه السیاسیه، لأنّ المرشّح قد یکون مؤهلاً إلا أنه فی قائمه لیست کذلک، وحینئذ إن فاز بمقعد فی البرلمان فإنّ وجوده سیذوب فی وجود الکتله ومواقفها، لأنّنا نعلم أن القرارات یدیرها رؤساء الکتل فی ما یسمونه بالمطبخ السیاسی أمّا الأعضاء فلیس لهم إلاّ التصویت ولا تأثیر للأصوات المستقله.
وإن لم یفز فإنّ أصواته ستذهب لمرشحین آخرین فی نفس القائمه وسیکون المصوّتون لهذا المرشّح مشارکین فی تمکین المرشّح الآخر ویتحملون مسؤولیه فساده وظلمه.
ویوجد شرط آخر وهو وجود راعی وضامن للکتله یکون مسؤولاً عنها ویحاسب على تصرفاتها ویستطیع الناس الوصول إلیه ولا یحتاجون إلى طرق بابه لأنِّ بابه وقلبه مفتوح لهم لیؤدی التزاماته أمامهم ویجدون عنده القلب الکبیر والتواضع وحسن الإنصات لهم والتفاعل مع همومهم وآلامهم وتطلّعاتهم، إذ لیس من الإنصاف أن تلتزم الأمه بالتصویت للمرشحین ولا یوجد من یضمن لهم التزام المرشّح أمامهم بالبرامج والوعود، روی عن الامام الصادق (A) قوله (ما قُدِّست أمه لم یؤخذ لضعیفها من قویّها غیر مُتَعتَع) ([۴]) فلا بد من مراعاه وجود من ینتصر للمظلوم وینتصف له .
وفی النظام السیاسی المعتمد حالیاً فی البلاد فإن الضامن الکبیر هو المرجع الدینی الجامع لشروط ولایه الفقیه من الاجتهاد والعداله والخبره بشؤون الناس والتفانی فی العمل لإعلاء کلمه الله تعالى والنهوض بواقع الأمه والعالم بالظروف والملابسات ویمتلک الکیاسه والفطنه حتى لا تهجم علیه اللوابس وأن یتصرف بحکمه ونحو ذلک.
فالولی أمور الأمه والمرجع الجامع لشروط القیاده لیس جزءاً من السلطه التنفیذیه فی الدوله، ولا هو رئیس کیان سیاسی وإنما هو الراعی لها کما یرعى کل المشاریع الإصلاحیه فی الأمه سواء کانت دینیه أو اجتماعیه أو أخلاقیه أو ثقافیه وما هو أوسع من ذلک؛ لأنّ موقع المرجعیه ووظائف المرجع أوسع من العمل السیاسی بکثیر بسعه متطلبات المشروع الإسلامی الذی یجب أن یقود الأمه.
ویمکن تلخیص بعض مسؤولیاته تجاه العملیه السیاسیه بنقاط:
۱- ترشید عمل السیاسیین وتسدیدهم على طبق القوانین الإسلامیه وتقدیم الأفکار والمشاریع التی تحقق الأغراض المرجوه.
۲- تصحیح الأخطاء والانحرافات ومعالجتها بحزم.
۳- غربله المرشحین لمواقع الإداره والسلطه وتأیید الصالح منهم.
۴- إعطاء الشرعیه للقوانین والمصادقه على نتائج الفعالیات لتکون شرعیه.
فلابد أن تمتلک المرجعیه الدینیه من الشعور بالمسؤولیه والشجاعه وقوه القلب ما یکفیها لتحمل المسؤولیه وإرشاد الناس لما فیه صلاحهم، أمّا دفع الناس إلى الانتخابات من دون الإشاره إلى البدیل الصالح فهذا مکر بهم وظلم لهم إذ أنهم یؤدّون ما علیهم ویدلون بأصواتهم استجابه لنداء المرجعیه من دون أن تعطیهم الالتزام المقابل والضمان بل تتنصّل من المسؤولیه وتلقیها علیهم وتقول لهم أنّهم لم یحسنوا التصویت، وان شرائح کثیره من الشعب لا تمتلک الرؤیه الناضجه والتحلیل الدقیق ازاء هذه القضایا المعقده، لانشغالهم بمعیشتهم وهمومهم الیومیه والأزمات المحیطه بهم من کل جانب فالشعب علیه الغرم بلا غُنم وزعماؤه لهم الغُنم بلا غرم و (تِلْکَ إِذاً قِسْمَهٌ ضِیزَى) (النجم/۲۲) ومخالفه للقاعده العقلائیه (من کان له الغنم فعلیه الغُرم).
ونحن لا ندعی ان المرجعیه قادره على حل کل المشاکل ومعالجه کل المفاسد وتحقیق کل المطالب فهذا فوق الطاقه، ولکن المطلوب منها ان تبذل وسعها فی اداء وظائفها والباقی على الله تعالى، وهذا یشبه المسؤولیه عن الاهل، ففی الروایه عن الامام الصادق (A) ( لما نزلت هذه الآیه {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَکُمْ وَأَهْلِیکُمْ نَارًا} [التحریم : ۶] جلس رجل من المؤمنین یبکی وقال أنا عجزت عن نفسی وکُلِّفتُ أهلی، فقال رسول الله (۲): حسبک أن تأمرهم بما تأمر به نفسک وتنهاهم عما تنهى عنه نفسک([۵]).